الآن، وقد مضت ثماني سنوات من حكم محمد السادس، يحق للمرء أن يضع تحركات الملك داخل التراب الوطني تحت المجهر لمعرفة هل هي تحركات مزاجية أم تحركات مفكر فيها؟ وهل هي تنقلات تُمليها اعتبارات إرضاء طلبات الأعيان بهذه المدينة أو تلك، أم تحتكم إلى رؤية مصاغة من قبل؟ وهل مسار تنقلات الملك يُعاكس مسار تنقلات الملك الراحل، أم على العكس تندرج في نفس التوجه الذي كان يسلكه المرحوم الحسن الثاني في تعامله مع المجال؟ "الوطن الآن"، وهي تحاول دراسة تنقلات الملك، احتكمت لاعتبارين أساسيين:
الأول مرتبط بكثافة تحركاته داخل المغرب، حيث أحصينا 472 تنقلا قطع خلاله 108363 كيلومتر من داخل الوطن من أصل 385944 كيلومتر قطعها خلال الفترة المدروسة الممتدة من 23 يوليوز 1999 ـ تاريخ توليه الحكم ـ إلى نهاية عام 2006 [أنظر العدد 243] وهو ما يفتح شهية التحقق لمعرفة هل المناطق التي يزورها تعرف ديناميكية لكون الملك زارها أم على العكس. وكذا التحقق من حجم ديناميكية المدن التي لم يزرها الملك، وهل ديناميكيتها أو جمودها مرتبط بالضرورة بتنقل الملك. [أنظر منحنى تنقلات الملك في الصفحة..].
الاعتبار الثاني يتجلى في الرغبة لمعرفة هل اهتمام الملك يطال كل المغاربة، أم فقط جزءا منهم؟ وهل يطال الفقراء، أم الأغنياء؟ وإذا كان يطال الفقراء فهل تمت بلورة ذلك في مشاريع؟ وإذا كان يطال الأغنياء فهل ازداد غناهم بشكل مشروع، أم بشكل غير مشروع؟ [انظر القطاعات التي يتدخل فيها في : 9]
الدراسة المنجزة سمحت بتجديد البروفيل السياسي للملك وهو بروفيل يتمفصل حول أربعة هواجس. حضري واجتماعي وصناعي - خدماتي، ثم هاجس مواصلاتي [البنية التحتية].
لكن هل هواجس الملك هذه، هواجس شخصية، أم هواجس المغاربة أجمعين؟ بمعنى آخر، هل الانشغال الملكي بهذه المحاور نابع من رؤية وطنية؟ وهل تقيد الملك بـ "الدستور الترابي"، يندرج في إطار تقيد الأجهزة الحكومية والجهوية والمحلية بالوثائق المرجعية الأخرى؟ بمعنى هل تنقل الملك إلى مراكش للإشراف على المدينة الجديدة تامنصورت وتنقله إلى تمارة للإشراف على المدينة الجديدة تامسنا يلغي أولوية تدعيم وتقوية المراكز الحضرية الصغرى والمتوسطة بالمدن الكبرى الأخرى؟ وهل خلق هذه المدن ناتج عن خصاص يقتضي إحداث مدن من لاشيء، أم بالعكس هناك تحديد لوظائفها ولمن يسيرها ويدير حاجياتها؟
وهل تنقل الملك إلى طنجة لمتابعة ورش ميناء طنجة وُضع في إطار تصور عام يشمل كافة التراب الوطني ويستحضر التكامل مع الموانئ الأخرى [البيضاء، المحمدية، الجرف الأصفر، مثلا]، أم أن ذاك الحرص أملته مقتضيات تدعيم المحور الشمالي ببنية مينائية ذات إشعاع دولي؟ وهل تنقل الملك لإعطاء انطلاقة بناء أوطوروت جديدة بين فاس ووجدة، وثالثة بين مراكش وأكادير، احتكم فيه إلى تحديد الأفضليات بين المجالات المغربية، أم تم اختيارها هكذا عبثا؟ وهل الأولوية يجب أن تعطى لتثنية خط سككي نحو فاس مثلا، أم لإحداث خط سككي جديد بين مراكش وأكادير؟ وهل خريطة تنقل الملك تتطابق مع خريطة التصميم الوطني لإعداد التراب؟ وهل المشاريع والأوراش التي يشرف عليها الملك كلما ذهب إلى مدينة معينة تعد مشاريع مدرجة في تصميم التهيئة، أم يقتحمها اقتحاما خارج كل تصور؟ وهل تنقلات الملك خلال السنوات الست التي درسناها حققت المساواة بين المغاربة في "الحق في التطور لكل مدن المملكة"، أم على العكس ساهمت في استمرار الإقصاء المجالي؟ وهل المشاريع التي يتنقل الملك للإشراف عليها بكل الجهات ترى النور، أم تبقى أساساتها دفينة تراب المدينة والقرية التي يحل بها محمد السادس؟ الجرد الذي قامت به "الوطن الآن" سمح بالوقوف على معطى هام، ألا وهو أن كل التنقلات الملكية مؤطرة بالتوجهات المجالية التي سبق أن التزم بها يوم 26 يناير 2000 في رسالته التي أعطى بموجبها البدء في حوار وطني حول إعداد التراب [خمسة أشهر بعد وفاة والده]. فتنقلاته نحو وجدة وبركان والسعيدية وزايو فرضته الخاصية الحدودية لهذه المدن التي ظلت منسية خلال عقود، وتنقلاته نحو تطوان وطنجة فرضتها الاختلالات التي سجلت بهذا القطب الحضري، أما تنقلاته بالمناطق الصحراوية وشبه الصحراوية [زاكورة، ورززات]. إلخ. فلكون المجالات الواحية [من الواحة] أضحت من أكثر المجالات تعرضا للتهديد، وتنقلاته نحو المناطق الجبلية راجع لكونها [أي هذه المناطق] تمثل ربع مساحة البلاد. أما تنقلاته صوب المحور الأطلسي [خاصة الدار البيضاء] فلأن هذه المدينة هي القاطرة المعتمدة عليها لجر باقي التراب الوطني. وإذا كانت تنقلات محمد السادس مطوقة بهذه الإكراهات المجالية، فإن الدراسة تكشف لنا أن هناك تطويقا قطاعيا آخر يؤطر كل تنقل للملك وهو ما يعيدنا إلى الهواجس التي ذكرناها.
الهاجس الأول حضري، إذ منذ أن تولى محمد السادس الحكم عرفت المدن المغربية انتفاخا قدره مليونان و700 ألف نسمة بمعدل 450 ألف وافد على الوسط الحضري كل سنة، وهو ما يطرح تحديات اقتضت تركيز الجهود صوب مشاريع الإسكان وتفكيك الأنسجة العتيقة الآيلة للسقوط والتأهيل الحضري. وهو مايفسر كيف أن الملك سجل 98 تدخلا في هذا المجال من أصل 460 تدخلا [أي ما يعادل 21 في المائة]. علما أننا لم نحتسب تفاصيل كل تدخل، إذ يحدث أن الملك لما ينتقل إلى مدينة ما ليشرف على مشروع سكاني معين فإننا نحصي العملية ككل. أما إذا فصلنا هذه العمليات، فإننا نحصل على 269 مشروعا سكنيا دشنه أو أعطى الملك انطلاقته، وهذا الرقم صححه لنا توفيق احجيرة وزير الإسكان، وأضاف أن حرص الملك على تتبع هذا القطاع قاد إلى تصفية عدة ملفات، وكشف لـ "الوطن الآن" أن 117 مشروعا انتهت به الأشغال كليا و53 مشروعا انتهت به الأشغال جزئيا، بينما يوجد في طور الإنجاز 68 مشروعا و31 ملفا مازال في طور الدراسة. إلا أن هذا الهاجس يختلف حسب الشبكة الحضرية التي يمكن تقسيمها إلى أربع فئات: الدار البيضاء، ثم الرباط- سلا، ثم العواصم الجهوية، ثم المراكز الحضرية الصغرى.
الهاجس الثاني يرتبط بفك العزلة وضمان تواصل الجهات ببعضها البعض عبر الطرق والموانئ والمطارات أو السكك الحديدية، حيث استحوذت هذه الخانة على 56 تحركا أثناء تنقلات الملك، 12.17 في المائة توزعت بين شق الطرق و إعطاء انطلاقة الأوطوروت أو المدار الساحلي أو توسيع مطارات وإحداث موانئ وتوسيع أخرى. وهو هاجس أسفر عن ابتكار صيغة جديدة في التركيبة المالية للمشاريع، حيث عوض الاقتصار على الصيغة القديمة لتمويل المشاريع تم إدماج صندوق الحسن الثاني ورفع رأسمال الشركة الوطنية للطرق السيارة، مما مكن من رفع وتيرة الإنجاز وإضافة مقطع الأوطوروت بين مراكش وأكادير، وفاس ووجدة، رغم أنهما لم يكونا مدرجين في المخطط من قبل، وخلق صندوق تمويل الطرق [2000 كيلومتر تنجز سنويا بعد أن كانت 1000].
الهاجس الثالث له علاقة بالهشاشة الاجتماعية التي تجعل عشرات الآلاف من المغاربة محرومين من خدمات الربط الاجتماعي بالماء والكهرباء والتطهير، مما يفسر لماذا يتولى الملك هذا الورش [49 عملية من أصل 460، أي 10.6 في المائة]، وهو رقم ينبغي التعامل معه بتحفظ، إذ أننا نحصي العملية التي تتم تحت إشراف الملك بولاية ما دون أن ندقق في عدد القرى والمداشر أو المراكز الحضرية المعنية بكل عملية على حدة بتراب تلك الولاية، وهو ما أكده لنا علي الفاسي الفهري المدير العام للمكتب الوطني للماء الصالح للشرب حينما أوضح أنه "يحدث مرارا أن توقع أمام الملك اتفاقية تضم عدة قرى وتجمعات سكنية وليس تجمعا واحدا". الهاجس الرابع وهو ذاك الذي بوبناه داخل خانة العمل الاجتماعي [مركبات اجتماعية ومراكز تأهيل المعوقين] الذين أحصينا فيهما مجتمعين 110 تدخلات من أصل 460 تدخلا [أي 23.9 في المائة]، وذلك بسبب الحصار الذي واجهته هذه الفئات عديمة الحماية [معوقون+ نساء+ أطفال + شباب] في كل المخططات السابقة، مما جعل الخصاص فظيعا في البنيات الممكن أن تستقبلهم أو تهتم بهم.